الظلام هو ما يوحي بوجود العفاريت، فبالرغم من الظلام فمن الممكن أن نراى أجسامها السوداء، و يمكن أن نشعر بحركتها و هي في الهواء، و أن نسمع صوتها و هي تنظر لنا و تضحك.
إنه يشعر بها يوميا و هو يسير في طريقه ليلا. الطريق غير معبد و يسير به بين الحقول، بدون إنارة و لا حتى ضوء القمر، فالذُرة طويلة و الطريق يدور و يتلوى وسطها. يمشي كل يوم بعد عمله ليزور أمه قبل ان يذهب لبيته.
يصغي للأصوات التي تحملها الرياح لأذنه، فيفرق بين صوت نباح الكلاب البعيدة و صوت الأسماك في الماء القريب، وصوت صرير الصراصير و نقنقة الضفادع.
إنه يخاف من العفاريت و يرتعب منهم، إنه مقتنع أنها لا توجد إلا في القرى و بين الحقول و تظهر في الليالي السوداء، هكذا كان يعتقد. فلا يخاف من الثعابين و لا من الكلاب الضالة، و عندما يسير وحده يجف حلقه، و ترتعش أطرافه، و يعرق جبينه، و يدق قلبه بقوة تكاد أن تخلعه من صدره.
يقول في نفسه إنها تغيرات لا يجب ان يراها العفاريت أو يشمو رائحتها، فيخرجون من تحت الأرض بعفارتهم التي تغطي أجسادهم فلا يظهر إلا إصفرار أعينهم.
و في إحدى المرات و هو يسير مسرعا وسط الظلام، داس بقدمه على شيئ و سمع صوت صريخ مكتوم. فتح عينيه كلها من شدة الخوف و أخذ يتنفس كل الهواء و يلوح بيده بكل جانب، فهو مقتنع أنه لم يسمع هذا الصراخ من قبل و أنه صراخ العفاريت، ثم ساد صمت رهيب.
شعر الرجل بأنه ساقه لم تعد تحمله و أنه سيسقط فجلس مكانه على الأرض و مرت لحظات الإنتظار و الترقب و كأنها ساعات و جال في خاطره أنه لو انتظر فستتجمع عليه العفاريت و تأخذه لتحت الأرض حيث بيوتها. و لكن شيئا غريبا آخر حدث.
رأى عينا صفراء واحده كبيره جدا تخرج من بين الحقول ...
و تنظر إليه و تتأمله من أعلاه لأسفله و كأنها عين عملاق، ثم ظهرت يد عملاقه و كأنها جبل لتلقي به على الأرض بعيدا عن الطريق. ثم أمسكته من قدمه و رفعته لأعلى و هي تهزه بشده و هو يصرخ من فزعه و يقول، لا تأكلني.
صرخ العفريت في وجه الرجل و قال أنت السبب في مقتل ولدي، لقد دهسته و أنت تمشي مسرعا. إنه إبني الوحيد، لقد إنتظرت ألف سنة حتى يكبر، ثم تدهسه بقدمك.
لم يفهم الرجل شيئا مما قاله العفريت، فكيف عملاقا يكون له طفل بهذا الحجم، و هل هو صغير لدرجة أني أدهسه بقدمي فيموت، و كيف تنتظر ألف سنة ليكون لك طفل. نظر الرجل للعفريت و قال لم آراه و لم أقصد أن أدهسه.
قال له العفريت أنتم البشر لا تميزون الخير من الشر و لا تعرفون الطيب من الخبيث، عليك أن تدفع الثمن و أن تعمل عندي مقدار حياتك. وافق الرجل على أمل ألا يقتله العفريت.
و في مساء اليوم التالي و الرجل يسير في نفس طريقه، ظهر له العفريت العملاق و قال له، إمشي من هذا الطريق و دس بكل قوتك على الأرض، فأطفال العفاريت تلعب هناك. فقال الرجل هل تريدني ان ادهس أطفال العفاريت و أقتلهم. صرخ العفريت و قال لقد قتلت ولدي و ستقتل بقية أولاد العفاريت. فلن أعيش وحيدا حزينا على ولدي.
خاف الرجل مما يريده العفريت العملاق، فكيف سيتحول لقاتل أطفال العفاريت، و ماذا سيحدث له لو عرفت العفاريت بأنه من قتل اولادهم. رفض الرجل بشدة و قال لن أتحول لقاتل و أنا لم أقصد أن أقتل ولدك و أجعلك وحيدا و حزينا. هزه العفريت بعنف و كان أن يخلع رأسه، ثم قذفه لمسافه بعيده و تركه.
و في الصباح، أخذ الرجل يفكر في كيفية الهروب من العفريت العملاق، وجد نفسه في مأزق حقيقي. لم يكن يرغب في أن يصبح قاتلًا لأطفال العفاريت، ولكنه كان في وضع يجبره على اتخاذ خيارات صعبة.
بينما كان يفكر في ذلك، جاءت فكرة مفاجئة إلى ذهنه. قرر الرجل أن يتحدى العفريت بطريقة مختلفة، بدلاً من الهروب أو القتال. قال لنفسه، "لابد أن أجد حلاً يرضي العفريت وينقذني في الوقت نفسه."
بدأ الرجل في التفكير في خطة. قرر أن يتحدث مع العفريت مجددًا ويقنعه بأنه لم يقصد قتل ابنه، وبأنه كان يمشي بسرعة فقط لأنه خائف من الظلام ولا يستطيع أن يرى أمامه بوضوح وبأنه يفهم حزن العفريت على فقدان ابنه، ويتفهم أنه يشعر بالألم.
في المساء التالي، وجد العفريت الرجل يسير على الطريق مرة أخرى. ظهر العفريت معبرًا عن غضبه وحزنه، ولكن الرجل بدأ في الحديث بكلام مؤثر وصادق. حاول الرجل بكل ما أوتي من قوة أن يوضح للعفريت أنه لم يقصد إيذائه أو أطفاله، وأنه كان ببساطة يحاول العودة إلى منزله بأمان.
على مدى ساعات، تبادل الرجل والعفريت الكلام. بدأ العفريت يفهم قليلاً من دوافع الرجل ومشاعره. بدأ يظهر عليه علامات من الندم على ما حدث، وبدأ يفكر في مسألة الانتقام.
فجأة، تغيرت تعابير العفريت. بدأ يتأمل الرجل بعينين تعبر عن الغضب والحزن في الوقت نفسه. ثم، بلا سابق إنذار، ألقى العفريت الرجل بعيدًا عن الطريق بقوة، و قال له انه سوف يقتله. كانت الهزة قوية وكادت تكسر عظام الرجل، ولكنه بقي على قيد الحياة.
عندما استعاد الرجل وعيه، وجد نفسه في مكان غريب. كان محاطًا بالغابات والأشجار الكبيرة. كانت الأشجار تميل نحوه كأنها تريد التحدث معه، والأوراق تهمس في أذنه همسات خافتة.
في تلك اللحظة، أدرك الرجل أنه قد حدث شيء لم يكن يتوقعه. تساءل إذا كانت هذا هو العقاب من العفريت أم ماذا حدث بالضبط. ثم، تفاجأ الرجل بظهور شخصية غريبة أمامه، شخصية تبدو وكأنها جزء من الطبيعة نفسها.
الرجل لم يكن يعرف ما الذي ينتظره في هذا الغابة المسحورة، لكنه كان على استعداد لاستكشاف كل شيء جديد ينتظره.
الشخصية الغريبة التي ظهرت أمام الرجل كانت امرأة بالغة في العمر، لكنها كانت تمتلك ملامح غامضة وجمالًا ينبعث من داخلها. كانت ترتدي ثيابًا طويلة ومنمقة بألوان الطبيعة، وكأنها جزء من الغابة ذاتها.
الرجل بدأ يتحدث معها، محاولًا فهم ما حدث ولماذا وصل إلى هذا المكان. أخبرته المرأة أن هذا المكان هو عالم الأرواح، حيث تأتي الأرواح للحصول على الشفاء الروحي والتوجيه. وأن العفريت الذي التقى به في الليلة الماضية هو روح يبحث عن عدالة لأبنه الذي فقد حياته بسببه.
الرجل أصيب بالدهشة من هذا الكلام، لأنه لم يكن يعلم أن هذه العوالم الخفية قد تكون حقيقة. تعلم من المرأة أن الحب والتسامح هما المفتاح للفهم و التعامل مع القوى الخفية في العالم. وأنه كما تعامل مع العفريت بحب وتسامح، يمكنه أن يجد السبل للخروج من هذا العالم بأمان وعافية.
على مدار الأيام التي قضاها في عالم الأرواح، تعلم الرجل الكثير عن الحياة والروحانية، وأدرك أنه يجب عليه أن يعيش بحكمة ويعامل الآخرين بمحبة واحترام. وبعد فترة، سمحت له المرأة بالعودة إلى عالمه، متمنية له حياة مليئة بالسلام والنجاح.
عاد الرجل إلى طريقه القديم، ولكن بقلب وعقل جديدين. لم ينسى الدروس التي تعلمها، وكان دائمًا يتذكر العفريت وابنه، وكان يحمل معه رسالة السلام والتسامح في كل خطوة يخطوها.
هكذا انتهت رحلة الرجل، وبدأت رحلة جديدة له في العيش بحكمة وحب، مما جعله ينعم بالسعادة والسلام الداخلي في كل يوم من حياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق