إنها طبيبة، مثقفة، هوايتها و متعتها البحث في مجال أصول السلالات البشرية. إمرأة شابه في الثلاثين من عمرها، تركت حياة أهلها و سافرت لبلد فقير و غريب عنها، عاشت وحيدة بين عملها و هوايتها و بيتها. تعيش في قرية ينتشر فيها الفقر و المرض و الجوع، مئات من الأطفال و النساء بحاجه لرعاية صحية وسط ندرة من الأطباء و الأدوية.
واقعها قاسي و قلبها كبير، حياتها مكرسة لرعاية المحتاجين. بعد فترة غير طويلة أصبحت تُذكر في معظم البيوت بكل خير و مودة، أحبها الأطفال و أحبتها نساء أهل القرية.
إنغمست في حياة أهل القرية حتى أعطوها لقب من ألقابهم و أصبحوا ينادوها بإسم جديد من أسمائهم، إنها الست. إنها تأصلت بهم و إقتربت روحها بأرضهم و بثقافتهم، حتى أنها أصبحت تلبس و تتكلم مثلهم.
مازالت تتذكر حياتها الماضية مع زوجها الذي تركته بعد إنقاذه من المشنقة و أولادها الذين تركتهم لتحقق أحلامها و تكتشف ذاتها في بلاد أخرى. أدركت بعد وقت أنها مازالت لا تريد الرجوع، إنها هنا محبوبة، الناس حولها يزوروها و الحياة ليست مملة حتى لو كانت القرية فقيرة، شوارعها غير نظيفه و ليس بها أماكن خضراء و لا أماكن للتنزه.
تذهب لعملها صباحا على ظهر حنطور و تجاورها أحلامها عن بلدها الصارم في قوانينه و الصاخب في إيقاعه و السريع في أحداثه. إنها هنا تعيش بهدوء، السكون يملئ قلبها و الطبيعة الهادئة تدخلها في جو من الأحلام و الحكايات. يغزو عينها شيخ كبير طاعن في العمر، يحمل عصا طويلة و يلف عمامة بيضاء على رأسه و وجهه. يقود جماعة من الخرفان و الماعز يمشي بجانب الطريق ولا ينظر إلا للأمام.
وقف الحنطور عند مناداة شاب على الطبيبه، فأعطاها زهرة صفراء صغيره و قال لها إنها البشاير، بشارع زرعه و حياته. أخذت الزهرة بعينين تدمعان و قربتها لقلبها و حضنتها بكل ما عندها من طاقة حب و إبتسمت ثم ذهب الشاب في طريقه. أسر قلبها و أدخلها في حالة من التأمل في عمق هذا الإنسان البسيط، كم أنه يمثل الروح النقية، بلا كبرياء و تعقيد.
بعد هذه الرحلة الشاعرية، رأت الطبيبة من بعيد شبابيك ملونة و مزخرفه بالألوان و الرسومات، إنها المستشفى. دخلت لتبدأ في عملها برعاية أجسام هزيلة و مريضه و مشرفه على حافة الحياة. نظرت على زهرتها الصغيره و أخذت منها أشعة الأمل.
في بداية عملها كانت تتذكر أن المستشفى عبارة عن معتقل مخصوص للإبادة، كل من يحيط بها يحتضر و يلفظ آخر أنفاسه، الأطفال يقضوا حاجاتهم في نفس مكانهم و الأفواه يملؤها الذباب و الوجوه يكسوها القهر و الفقر و الحرمان. إنه الجحيم في نظر الكثيرين، و لكنها كانت ترى أن لها دور كبير في إنقاذ حياة الكثيرين. أُسرت هذه الطبيبة بحب غريب مع هذه البيئة و هذه القسوة، إنها هنا للمساعده.
إستلمت الطبيبة بيتا جميلا، يتكون من دورين، فجعلت الدور العلوي لحياتها و السفلي لحياة المرضى فكانت عيادة مسائية لكل من إحتاج للمساعده أو مرسما يملؤه الأطفال لتستمع إلى لعبهم و لتتغنى بضحكاتهم. و في أيام العطلات، تفتح النوافذ و ترفع صوت الموسيقى ليسمعه كل من في الشارع. و كانت تروي عن أن الناس قد تأثروا بها كثيرا لدرجة أنهم كانوا يسندون على الحائط ليستمعوا لموسيقاها، موسيقى موزارت و ليزت و شوبان.
لم تتدخل هذه الطبيبة في محاولات لتغير عادات و ثقافه أهل القرية و لم تكن لتهتم بما يحدث إجتماعيا بين الناس من زواج قاصرات، و تحريم التعليم على الفتيات، و تعاطي المخدرات، و موت الأطفال.
أكثر ما أعجب هذه الطبيبة هي تغير فلسلفتها في الحياة، لمست بعينيها و قلبها معنى الإيمان الذي تتمتع به النساء و أنها سمعت منهن كيف يشعرن بوجود الخالق وسط هذه الفوضى من الجهل و القهر و الفقر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق