عروق الألم

المقدمة 

في زمن بعيد، في مدينة غارقة في التناقضات، حيث الترف والبؤس يتجاوران، كان الفقر يسلب الأرواح ويغمرها في الظلمات. في تلك المدينة، عاش أغنياء مستمتعون بكل نعم الدنيا، لا يشغلهم شيء سوى البحث عن الخلود وسبل إطالة حياتهم المرفهة.

وفي يومٍ مشؤوم، اكتشف عالمٌ غني جهازًا غريبًا، يمكنه أن يربط شرايين الأغنياء بأعضاء الفقراء، بحيث يستأجر الأغنياء أعضاء الفقراء لتجديد حياتهم المنهكة. كان هذا الجهاز المعقد يمتد كشبكة من الأنابيب والشرايين، يربط دم الغني بقلب الفقير، وكليته و رئتيه، بكلية و رئة الفقير، فيستخدم الغني قوة و حيوية أعضاء الفقيرو يصبح الفقير عالقًا بالجهاز، رهينة لحياة الغني.

هذا الجهاز لم يكن مجرد وسيلة للاستئجار، بل كان يجعل جسد الفقير يلتصق فعليًا بجسد الغني، بحيث يصبح الاثنان كيانًا واحدًا. كان الغني يحصل على الطاقة والحياة من أعضاء الفقير، بينما يبقى الفقير عالقًا بالجهاز، لا يستطيع الفكاك منه. بألمٍ وخضوع، وافق الفقراء على هذا الاستئجار القاسي، مضطرين لقبول الفتات الذي يدفعه الأغنياء لقاء حياة مهدورة. أصبحوا مرتبطين بالجهاز، غير قادرين على الفكاك منه، حياتهم متوقفة على استمرار الجهاز في العمل دون خلل. إذا تعطّل الجهاز، فإن الفقير يموت، ويخسر الأغنياء وسيلتهم لتمديد حياتهم.

مع مرور الزمن، أصبح هذا الواقع المظلم جزءًا لا يتجزأ من المدينة، حيث يعيش الأغنياء أعمارًا مديدة بصحة ونشاط، بينما يتلاشى الفقراء ببطء، يعانون من الألم والعجز بسبب أعضائهم المستأجرة و المستهلكة. الفجوة بين الأغنياء والفقراء اتسعت بشكل مرعب، والمدينة أصبحت مسرحًا للمعاناة والتناقضات.

مراد

كان هناك رجلٌ غني يُدعى السيد مراد. مراد كان يعيش حياة ترف لا حدود لها، لكنه كان يسعى دائمًا وراء الشباب الدائم والصحة المتجددة. امتلك مراد جهاز الاستئجار الذي اخترعه العالم الغني، والذي يربط شرايينه وأوردته بأعضاء الفقراء. ولكنه كان يسعى لأكثر من ذلك. كان مراد يستخدم مواد كيميائية منشطة. و كان لهذه المواد أثار مدمرة تجعل أعضاء الفقراء تتدهور بسرعة أكبر. كان يعرف أن هذه المواد تسرع من تآكل الأعضاء، لكنه لم يهتم. كان همه الوحيد هو أن يستنزف أكبر قدر من الفائدة في أقل وقت ممكن، ثم يبحث عن فريسة جديدة.

عاش كريم، أحد الفقراء، مرتبطًا بجهاز مراد، يمده بحياة مستعارة. كريم شعر بآلام مبرحة وأعراض لا تُحتمل، أدرك أن شيئًا غير طبيعي يحدث لجسده. حاول مرارًا وتكرارًا التحدث إلى مراد، لكنه كان يواجه بجدارٍ من الجفاء والقسوة. وفي إحدى الليالي، لم يستطع كريم تحمل الألم أكثر. واجه مراد بالحقيقة، رفض أن يستمر في هذه المهزلة المميتة. أصيب مراد بالغضب والجنون. كيف يجرؤ كريم على الرفض؟ و الهو الفقير الذي يأخذ مالا و لا يشكر. فقرر مراد أن يتخلص منه.

دبر مراد خطة لقتل كريم، جعل الأمر يبدو كحادث طبيعي نتيجة لتدهور صحته. بدم بارد، نفذ خطته وراح يبحث عن فقير آخر يستنزف أعضائه. كانت عيناه تبحث في الشوارع، تلتقط كل وجهٍ بائس، كل جسدٍ منهك. كان يعتبرهم مجرد موارد بشرية، لا أكثر.

علي

بعد مقتل كريم البائس، بدأ مراد في البحث عن فقير جديد ليستنزف أعضائه كما فعل من قبل. عيون مراد المتعطشة للشباب والنشاط راحت تتجول في أحياء المدينة الفقيرة، تبحث عن فريسة جديدة. استقر اختياره على شاب يُدعى علي، كان يعيش مع أمه المريضة ويكافح لتأمين لقمة العيش لهما. علي كان يائسًا، ووافق على عرض مراد دون أن يدرك الثمن الباهظ الذي سيدفعه. في البداية، كانت الحياة تبدو أفضل قليلاً، حيث استطاع علي شراء الدواء لأمه وتوفير بعض الراحة لها. لكن سرعان ما بدأت الأعراض المدمرة تظهر على جسده، تمامًا كما حدث مع كريم.

كان علي شابًا قوي البنية، على الرغم من الفقر والحرمان الذي عاشه. كان يعمل في أشغال شاقة منذ صغره لتأمين لقمة العيش لأسرته، ما أكسبه جسدًا قويًا وروحًا لا تعرف الاستسلام. ومع ذلك، لم يكن يعلم أن قوته الجسدية ستكون سلاحه الوحيد في مواجهة مراد القاسي. عندما لاحظ علي التدهور السريع في صحته بعد ارتباطه بجهاز مراد، بدأت الشكوك تساوره. لم يكن هذا مجرد استئجار للأعضاء، بل كان استنزافًا متعمدًا لحياته. بدأت أعراض الإرهاق والتعب تزداد يومًا بعد يوم، ومعها زاد تصميم علي على مواجهة مراد وكشف حقيقته.

مراد، على الجانب الآخر، كان يعلم أن علي ليس كغيره من الفقراء الذين استغلهم سابقًا. كان يراقب علي بحذر، يدرك أن قوته الجسدية قد تشكل تهديدًا له. لذا، لجأ مراد إلى استخدام مواد كيميائية تزيد من سرعة تدهور أعضاء علي، محاولًا القضاء على أي فرصة لعلي للمقاومة.


عرض أكثر شراسة

عندما لاحظ مراد قوة علي الجسدية وصلابته، أدرك أن علي ليس مجرد شاب فقير يمكن استغلاله بسهولة. رأى في علي فرصة لتحقيق طموح أكبر، وهو الاستفادة من ذكائه وقوته الجسدية معًا. فكر مراد في عرض جديد ومغري لعلي، لكن هذه المرة كان العرض أكثر شراسة ووحشية. ذات يوم، تكلم مراد مع علي داخل قصره الفخم. جلس علي أمام مراد الذي كان يجلس خلف مكتبه الكبير، وعيناه تلمعان ببريق الطمع والجشع. بدأ مراد الحديث بابتسامة مريبة على وجهه:

"يا علي، أنت شاب قوي وذكي. لقد أثبت لي أنك قادر على التحمل والصمود. لذا، أريد أن أعرض عليك فرصة جديدة، فرصة ستغير حياتك وحياة عائلتك إلى الأبد."

نظر علي إلى مراد بحذر، متوقعًا مكيدة جديدة. أكمل مراد قائلاً:"أريد استئجار مخك، أريد أن أستفيد من ذكائك وقوتك العقلية. سأقوم بربط مخك بجسدي باستخدام الجهاز، وستكون عقلي المدبر وذراعي اليمنى. ستعيش حياة مرفهة، وستحصل على كل ما تتمناه من المال."

بدأ علي يفكر بعمق، كان العرض يبدو مغريًا، و أن المال سيكون سهلا في يده، و أنه سيستخدمه في مداواة أمه المريضه. و لكنه كان خائفا و مرتبكا، كان يعرف أن هناك شيئًا مظلمًا خلف هذا العرض. تساءل في نفسه عن الثمن الذي سيتعين عليه دفعه مقابل هذا العرض.

بهدوء، رد علي: "وماذا سيحدث لي إذا وافقت؟"

ابتسم مراد ابتسامة خبيثة وأجاب: "ستكون مرتبطًا بي تمامًا، عقلك سيعمل لخدمتي وسيكون جزءًا من جسدي. لكن لا تقلق، ستحصل على كل ما تتمناه وستعيش حياة مرفهة، أنت و أمك."

كانت كلمات مراد تبدو كفخ محكم، علي شعر بذلك. لكن لم يكن لديه خيار آخر سوى التفكير بحذر في هذا العرض. أدرك أن قبول هذا العرض يعني فقدانه لحريته بشكل نهائي، وأنه سيكون مجرد أداة في يد مراد. لكنه كان يخطط لتحويل هذا الوضع إلى فرصة للقضاء على مراد. كان علي يمتلك ذكاءً حادًا وقوة جسدية، واستغل ذلك لتطوير خطة محكمة.


الخطة

علي، بعد أن وافق على عرض مراد بتأجير عقله، أدرك بسرعة أن هذا العرض لم يكن مجرد استئجار عادي، بل كان يعني انتقال وعيه وعقله إلى جسد مراد. فكر علي في الطريقة التي يمكنه من خلالها استخدام هذه الفرصة لمصلحته، وعلم أنه إذا نجح في إقناع نفسه بقتل مراد، فإن جسد مراد لن يتردد في تنفيذ الأمر. بدأ علي في التفكير العميق بشأن وضعه الجديد. كان يعلم أن مراد سيستفيد من عقله في توسيع سلطته ونفوذه، لذا قرر استخدام ذكائه وقوته العقلية للتلاعب بالأوضاع لصالحه. أدرك أن الطريقة الوحيدة للانتقام من مراد هي إقناع نفسه بضرورة القضاء عليها.

بدأ علي في رسم خطة نفسية محكمة. قضى وقتًا طويلاً في تأمل الوضع والتفكير في كيفية إقناع نفسه بأن مراد يجب أن يُقتل. قام بمراجعة جميع الجرائم التي ارتكبها مراد واستغلاله للناس، ووضع نفسه في موقع الضحية التي يجب إنقاذها. في اللحظة التي وصل فيها علي إلى جسد مراد، بدأ علي في السيطرة على جسد مراد، استخدم قدرته العقلية لإقناع مراد بأن حياته ليست ذات قيمة وأنه يجب أن يقتل نفسه. كان يتحدث إلى مراد بأقوى الحجج التي يمكن أن تجعل مراد يقتنع بأن النهاية هي الحل الوحيد.


المواجهه

مراد، الذي كان يعتقد أنه سيظل المسيطر بشكل كامل على علي، فوجئ بقدرة علي على التحكم في جسده. لم يكن يعلم أن علي كان يستعد لهذه اللحظة منذ بداية الاتفاق. كانت المعركة النفسية بين علي ومراد محتدمة، حيث حاول مراد بكل قوته مقاومة تأثير علي. عندما بدأ علي في السيطرة على جسد مراد، استخدم قوته العقلية لإقناع مراد بأن حياته ليست ذات قيمة وأنه يجب أن يقتل نفسه. لكن مراد كان أقوى مما توقع علي، وكان الصراع الداخلي بينهما شرسًا.

وفي إحدى الليالي، بينما كان مراد يجلس في مكتبه، بدأت الأفكار السوداوية تتسلل إلى عقله. رأى علي أن هذه هي فرصته، وبدأ في تكثيف هجومه النفسي. كان مراد يشعر بالضغط النفسي الهائل، وكان يرى في كل لحظة الذكريات المرعبة لكل الجرائم التي ارتكبها. بدأت يدا مراد ترتجفان، ووجهه يتصبب عرقًا. حاول مقاومة الأفكار، لكنه شعر بقبضة علي تزداد قوة. في تلك اللحظة، أمسك مراد بسكين كان موجودًا على مكتبه، وبدأ يضغط على حده ببطء، مستجمعًا كل قوته لمقاومة سيطرة علي.

صرخ مراد بغضب، محاولًا طرد الأفكار من رأسه، لكن علي كان يسيطر على كل جزء من جسده. اندفع مراد باتجاه المرآة الكبيرة في الغرفة، وكسرها بقبضة يده العارية. الشظايا المتناثرة حوله عكست وجهه المشوه بالجنون واليأس. وقف عقل علي أمام عقل مراد، متجهًا نحو قلبه الذي بدأ ينهار ببطء. كانت المعركة الحقيقية قد بدأت. اندفع علي محاولًا طعن جسد مراد بشظايا المرأه.وأمسك بيد مراد ودفعه بقوة نحو الأرض.

تقاتل الاثنان بشراسة، وكان الدم يتطاير في كل مكان. كان مراد يصرخ بألم، وعلي يستخدم كل قوته. في لحظة حاسمة، استطاع علي أن يمسك بشظية حاده ويغرسها في صدر مراد. صرخ مراد بصوت عالٍ، وسقط على الأرض، ووجهه مشوه بالألم والرعب. نظر علي إلى مراد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وشعر بمزيج من الانتصار والاشمئزاز. كان يعرف أن المعركة لم تكن سهلة، وأنه خسر جزءًا من نفسه في هذا الصراع. لكن في النهاية، كان يعلم أنه انتقم لكل الفقراء الذين استغلهم مراد.

ترك علي الجسد المسجى على الأرض، وغادر المكان بصمت. قرر أن يستخدم هذه التجربة لتغيير حياة الفقراء في المدينة، وأن يكون صوتًا للمستضعفين، حتى لا يتكرر ما حدث معه ومع الآخرين مرة أخرى.


النهاية ...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق