سنتعرف على قصة إمرأة شابة تركت طفلها ذات الشهور العشرة على شاطئ البحر تحت أشعة الشمس يلعب بالماء حتى نام و إستغرق في نومه و رأيت بأم عينها الأمواج وهي تحتضنه و تسحبه بهدوء لداخلها. أحست وقتها بفرحة عارمة، لقد تخلصت، إرتاحت، تحررت.
لا تستعجب فإنها ليست وحشا.
في البداية، ومن فترة ليست طويلة من الزمان، كانت تعيش في بيتها مع أبيها و أمها حياة ملئها الحب و السخاء. كان أبوها طبيبا و أمها معلمة، عاشوا في أحد القرى الهادئة و الجميلة. و لكن الأيام تغيرت و الأحوال تبدلت و قامت الحرب و قُتل أبيها و قتلت أمها. إنها الآن وحيده، بدون منزل ولا مال و طعام و لا أحد يحميها من غدر الزمان.
صبية، بيضاء، جميلة، جائعة ، خائفة، و وحيده. تجمعت بها كل صفات الإستغلال. هربت من قريتها، و غادرت مع الناس و لجئت عند حدود البلد المجاور. رأها قائد الحرس، اللواء الضرغام، إنه رجل عجوز، بدين، وحيد، و ذات مكانه إجتماعية.
يراها من شباك مكتبه، إنها هناك، قابعة على التراب، على الأرض الصحراوية الموحشة، ناجية ربما و لكنها في الحقيقة أسيره. طلب من جنوده أن يعرضوا عليه كل لاجئ على حده ليقرر من يستحق العبور و من يموت على الحدود. جاء دورها، فدخلت عليه غرفته، رآها كاملة بعينيه، و سألها كم عمرك، فجاوبت. لكنه لم ينتبه لكلامها فقد أُسر برنين بصوتها. أراد أن يأخذها بعيدا عن عيون الناس، و قدم لها الطعام و الشراب. هي جائعة و عطشى و لكنها رأت في عيونه ما جعلها تخاف.
راودها بصوت فيه تهديد و خيرها بكلام غير صريح، إما أن تخرج معه لبيته أو تخرج للتراب و الصحراء. نظرت إليه شذرا للحظات ثم نظرت للأرض و شرد ذهنها و قالت ما أقبح الجمال، ثم أومئت بالموافقه. يال سعادته، إمتلئ وجهه بالفرحه و قلبه بالطرب وقال في نفسه، سأجعلها الأجمل و الأغنى، سأمتعها خير متاع، سألعب بها و سألعب معها.
ظلمة عاشت فيها هذه الفتاة المغصوبة و المغتصَبة، حيرة و قلق، كائن صغير مازال يحتاج لأمه لتتحمل مسؤولياته. إنها معزولة، لا تعلم الليل من النهار، تبكي بحرقة بغير دموع و تصرخ عاليا بغير صوت. لا تعلم هل تبكي خوفا أم تعبا. تسترجع ذكرياتها، أصدقائها، مدرستها و مدرسيها. أين هم الآن، هل ما زالوا على قيد الحياة أم أصبحوا تحتها. تقضي أيامها و لا تتلفظ بالكلمات إلا قليلا. إنها في حلقة مفرغة، لا تدري من أين تبدأ و ماذا سيحدث لو ........
و طرأت في أذنها فكرة كأنها سمعتها قبل أن تدخل في عقلها لتفكر فيها، إنه حمل ثقيل، كيف سأتخلص من الجثة. و قالت في نفسها، إنه رجل وحيد، يأتي كل ليلتين، يجلس معي ساعتين و يسافر لحدوده، يحكم على الناس من يعيش و من يموت، كأنه إلاه. لا، إنه شيطان. إنه يستحق الموت، سأحكم أنا عليه، و سأقتله.
و في ليلة من الليالي الحزينة، جاءها البدين و بيده طعام كثير و أمرها بالأكل و الشرب معه، إنها تنظر إليه و كأنها تتخيله جثة هامدة ملقاة على الطاولة و تتخيل كم سيكون ثقيلا و يستحيل عليها تحريكه. نعم، إنها هي الفكرة، لن أحركه، سأقتله و أهرب و لكن أين أوراقي، أوراق لجوئي، كيف سأسير في الشوارع و أين سأذهب.
يفاجئها الوحيد و يقول عندي لكي مفاجأة سعيده، إنظري في جيبي، تعال و إنظري، صدقيني، ستحبينني الآن. فصدقته و ذهبت بجانبه و أدخلت يدها الصغيره في جيبه و لمست ورقا وكادت أن تخرجه، فمنعها و أمسك يدها و أطبق عليها بشدة، و قال، هذه أوراقك يا عروسه، إنها أوراق لجوئك. و لكنها ستظل معي حتى لا تهربي. لن تستطيعي أن تتركيني، أبدا أبدا. و ضحك ضحكة عالية و لكنه لم يكن يعرف ما بذهنها.
ذهبت مسرعة للمطبخ و أخذت سكينا حادا و أطبقت على رأسه من الخلف و أصابها الجنون و طعنته في عينه، واحده، ثم الثانيه، ثم الثالثة. فقام كالديناصور و أمسك عينه المفقوءه و لطمها بشدة جعلتها ترتمي على الجدار ففقدت وعيها. و أخذ يترنح و تسيل الدماء من عينه على ملابسه العسكرية بغزارة و صاح بأعلى صوته سأقتلك يا عا*رة.
أفاقت الفتاة من صوته و أمسكت بسكينها و طعنته في فخذه، إنه يسقط أمامها و لكنه أمسك بيدها، تشبث بها بقوة كادت أن تكسرها. ثم سقط عليها و لم يتحرك. ذُهلت الفتاة من الوضع و في لحظة أحست بالهدوء و سمعت صوت دمائه تسقط على رأسها، وفكرت إنه لا يتحرك.
إنه ثقيل جدا، له بطن كبير، إني أريد الخروج من تحته، أريد أن أتنفس، يا إلاهي، ساعدني. قلبته على ظهره بصعوبة و أدخلت يدها في جيبة لتخرج أوراق لجوئها من بين ملابسه. يا إلاهي، أنه ميت.
و في لحظة صمت قاتمة سمعت صوتا يخرج من فمه، يا إلاهي إنه يفيق، إنه لم يمت، أين السكين، أين قلب هذا الخَرِف و قبل أن تطعنه أمسك برجلها فسقطت و قاومته بشدة و أخذت سكينها و بكل قوة ملكتها و بكل قسوة طعنته في عينه الثانيه و ضغطت بسكينتها حتى غارت في رأسه ثم وقفت عليها برجلها فأحكمت السكين في دماغه. لقد مات الوغد أخيرا.
ضحكت بشدة و أخذت تتطاير في الهواء، ترفع يديها عاليا، و تصيح لقد مات، لقد مات، لقد مات. يا إلاهي إني جائعة، أريد أن ألتهم كل الأكل، أين الطعام.
إنقضى الليل بطوله و نامت في صمت و فرح وهي غارقة في الدماء و الجثة راقدة بجانبها و الدماء عليها قد تلبدت. أفاقت في الصباح مع دخول نور الشمس و الهواء البارد العليل، إنه يوم الحرية، إنه يوم الأمل. نظرت إليه و إشمئزت من شكله و عيونه مفقوءة و فمة مفتوح على آخره و ملابسه تحولت من اللون الأخضر للأحمر. ثم أحست بالدوار الشديد حتى سقطت و تقيأت كل شئ. تقيأت الأيام و المخاوف، تقيأت الظلم و الظلمة، تقيأت كل الطعام.
إنها لم تدرك صراحة، أنها تقيأت نتيجة حملها، حِمل جديد، إبنه. إنه مازال ملتصقا بها، لن تعرف هذه الفتاة الراحة بعد، يجب عليها أن تفهم، إنها أصبحت أمًا و لكنها أصبحت أيضا قاتلة.
تحسست بطنها و الألم يعتصرها من الداخل، يا إلاهي ما هذا الألم، جمعت شمل أنفاسها و تحركت ببطء لتغتسل و سقطت منها قطعة دم حمراء، أمسكتها و لم تعرف ماهيتها، نظرت إليها بإستغراب شديد، ما هذا. و رأت ما أفزعها، يا إلاهي، إنه طفل. لقد كنت حامل، من هذا الوضيع القذر. الحمد لله لقد سقط و تخلصت منه. و ضحكت و هي تغني، إثنين ماتوا من أجل طفلة.
غزلت لنفسها شعرا تتغنى به و لم تفهم أن الزمان قد نسج لها فستانا من الألام، لم تنتهي القصة و لكنها ستبدأ، ستبدأ حياتها الجديدة، حياة الدم و القتل، فقد ذاقت حلاوة الإنتقام و سمعت صوت الروح و هي تخرج من الأجسام، و أصبح الموت محفورا في ذكرياتها.
خرجت من البيت بملابس جديدة، هي متأكدة بأن أحدا لا يعرفها و أن العجوز البدين له أسراره التي لا يفشيها لأحد، معها أوراقها، لا أحد يعرفها و لا تعرف أحد. أخذت من جيبه كل الأموال و جالت في الطرقات حتى تعبت و أصابها الدوار، إنه نفس الدوار التي أتاها في الصباح، دوار الحمل.
قالت في نفسها، إنه لا يوجد حمل، لقد سقط، سقط الحمل الخبيث من الرجل الخبيث. هي إعتقدت ذلك و لكن الأيام ستكشف لها كم هي عمق الآلام. إرتاحت من المشي و تجولت من جديد و نظرت في مرأة أحد المحلات، يا إلاهي، كم أنا جميلة، رشيقة، بيضاء. كم يتمناني الرجال الآن، أنظر لهم فأرى شوقهم و أسمع مطامعهم. ياه، ما أجمل الجمال.
و في وسط الشارع سمعت ضجة و أناس تصرخ و رجال يجرون، ماهذا، ماذا يحدث، هرولت للمكان الذي يتجمع فيه الناس. إنه طفل صغير، معلق في إحدى المباني، إنه سيسقط، لا تخف يا صغير، ألقي بنفسك و سأمسكك، قالتها بأعلى صوت لها. لم يصدقها أحد و نظر لها الرجال و ضحكوا على حالها و لكن الطفل آمن بها و صدقها و أفلت يده ليسقط في أحضانها. إنها منقذة، إنها بطلة. آنسة صغيرة و رفيعة أنقذت طفلا يسقط من شرفة بيته.
دخلت هذه الفتاة في منعطف جديد في حياتها، إنها الشهرة، أصبحت حديث الساعه، كل الناس تتكلم عنها، كم أنها شجاعه، كم أنها ذكية. و أصبحت رمزا من رموز القوة، الأنثى الجميلة القوية. كل الناس أحاطوا بها في الشارع، الكل أحبها، و هي أحبت نفسها و حياتها.
و في الجهة الأخرى من العالم، تحت قدميها، تسللت الآلام لتدخل ثانية إلى دمائها و أمسكت بطنها بشدة، نفس الألم بنفس الشدة.
جاءت الشرطة و أخذوها على القسم ليستعلموا عنها، من أنت، و من أين أتيت. أظهرت لهم أوراق لجوئها. قالوا لها كيف حصلت على هذه الأوراق، قالت من عند الحدود، لقد دخلنا على اللواء قائد الحرس فأمر بمروري. فنظروا إليها بشدة و قادوها لمكتب معزول ليس به إلا طاولة و كرسي و تركوها ليلة كاملة.
جلست وحيده في الظلام للمرة الثانية، بكت و دموعها تحرق وجهها، سيكتشفوا فعلتي، سيقتلوني، سأعدم و أنا صغيرة، كم أكره الرجال، و كم أكره الجمال، إنه لعنة.
دخل عليها ضابطا و أحست بعيونه تخترقها و لكنه كتم في داخله ما أحسه، سألها في غلظة، من أين أتيت، فردت بهدوء و حكت ما أرادته أن يعرف. فسألها أين تعيشين، فردت أتنقل في الطرقات بلا مأوى. فكيف تأكلين، فردت من أموال وجدتها ملقاة. عدل الضابط جلسته و رفع نظره في وجهها و قال حسنا، الآن يمكنك الذهاب. أنت حرة.
جرت الفتاة في الشارع، مذعورة و خائفة، تعلمت درسا لن تنساه، لا تساعدي أحدا أبدا ما حييتي. ثم سمعت صوتا يأتي من بعيد، يناديها بإسمها، و يرفع يده لتشاهده، ما هذا، إنه هو نفسه، إنه الضابط. ماذا يريد مني، لقد رأيت نظرته لي، إنه مثله، يا إلاهي كم يشبهه من بعيد، ذئب بجسد إنسان.
قال لها إنه يعرف مكانا تتجمع في النساء اللاجئات، يوفر لهم الأكل و الرعاية. فدخل في قلبها السرور، سأعيش مع نساء مثلي و راودها الألم من جديد، فسألها ما بها، و جاوبت بأنها لم تأكل و هي جائعة.
أكلوا معا و ضحكوا معا و إستراحت لكلامه و بدأت تثق به، حتى أنها كادت أن تحكي ما حدث له و لكنها تراجعت بسرعة. قال لها إركبي معي و سأوصلك لمكان التجمع، فوافقت و ركبت السيارة. ويا ليتها لك تركب.
دخلوا بالسيارة في مكان كبير، كأنه قصر. سألته ما هذا، هل هو مكان التجمع، فرد بلا، إنه بيتي، سأبدل ملابسي الرسمية و سأوصلك. فراودتها الآلام من جديد و أحست بالخوف و لكنها كتمتها، فإنها قاتلة و لها سابقة قتل و القاتل لا يخاف.
دخلت بيته فوجدت أمه و أخته و بعض الفتيات الصغار، فعرَّفها عليهم و أحسنوا ضيافتها، ثم وقعت عينيها على صورة معلقة على حائط كبير، من هذا، سألت أخته. فقالت إنه أبوها. فذهلت، و كتمت في نفسها صدمتها، يال الهول إنها صدفة مقيتة، أنه أبوه. أبو الضابط، لقد قتلت أبو الضابط.
أخذها في سيارته و توجهوا ناحية مكان التجمع، و قبل نزولها من السيارة، أعطاها بعض المال و أعطاها تلفونا و قال لها، هذا لكي هدية، سأكلمك لأطمئن عليكي. فسرحت لبرهة و نظرت إلى الأرض و أومئت برأسها بالموافقة.
أوصي الضابط عليها سيدة المكان بأن تهتم بها و بمطالبها و أعطاها قليلا من المال. دخلت الفتاة و إستقرت و سمعت صوت التلفون يرن. سمعت صوته من جديد، قالت في نفسها ماذا يريد، خافت جدا بملاحقته لها إذا لم ترد. ثم ذهب الليل سريعا و إتفقا على الخروج معا في الصباح ليصطحبها في جولة حول المدينة.
و في الصباح ذهب الضابط في النوعد فوجدها منتظر خارج البوابة و قال في نفسه، إن هذه الفتاة عجيبة لقد توقعت أن تهرب و لم يساوره الشك مطلقا. ثم دخلت معه في سيارته. و قاموا بجولة ممتعه حول المدينة حتى حل الظلام.
توطدت علاقتهم يوما بعد يوم، حتى راودها عن نفسها، فرفضت بكل قوة و نهرته بعنف و قاومته بشدة. ذهل الضابط من ردة فعلها الشرسه و جرت مسرعه في الشارع و كسرت تلفونه و إختفت.
وصل الضابط لسيدة مكان اللجوء و سألها عنها فردت بأنها بأمان داخل المكان و لن يستطيع أحد الوصول إليها إذا لم ترغب، فنظر لها الشاب بإستهزاء و قال ستكوني مسؤولة عن إختفائها لو خرجت بدون علمي، فتعحبت السيدة و أغلقت البوابة بقوة و إتجهت للصبية لتسألها عما بينها و بين هذا الشاب.
لم ترد الصبية عن أي سؤال، سألتها السيدة كل الأسئلة الممكنة بصراحه و بغير صراحه و لكنها منعت نفسها من الإجابة. فقالت لها إنه ضابط لجوء و إذا أراد أن يخرك من هنا فسيعرف.
قضت المسكينة ليلة بائسه، كلها بكاء و عويل، تستعيد ذكرياتها و تنهمر دموعها بقسوة الأيام. نامت من شدة البكاء و من تعب الأعصاب.
إستيقظت مبكرا في الفجر على صوت ضجه كبيره، يوجد قاتلة و هاربة في المكان، الضباط دخلوا في كل مكان، إنهم يبحثون عنها، عن القاتلة. ماذا تفعل، هل تخرج من غرفتها و تهرب بسرعه من عيونهم، أم تظل في غرفتها حتى يكسروا الباب و يقبضوا عليها. و من شدة رعبها قفزت من الشباك لتسقط على أرجلها فتتكسر و يغمى عليها.
تفيق الفتاة من غيبوبتها و تشعر بغثيان غير طبيعي و ترى نفسها على سرير و أيديها و أرجلها مجبسين و معلقين بأسلاك في الهواء و بجانب السرير إستيقظ الضابط و سألها لماذا هربت، لماذا قفزت من الشباك. نظرت له و سألته هل كنت ستقبض علي حقا. نظر لها في حب و قال نعم و لكني كنت سأخفيك عن كل العيون. فسألته كيف عرفت، فقال أنه هو من إستخرج لها أوراق لجوئها بأوامر مباشرة من عمه، عمه المقتول.
نظرت إليه بشدة و رفعت حاجبها الصغيرين و قالت، عمك، هل هو عمك، كنت أعتقد أنه والدك. فقال لها، لا إنه ليس والدي، فالسيدة و البنات هن بنات عمي و لكني أعيش معهن.
ضحكت و قالت كنت خائفه أن تنتقم مني و تقبض علي و تعدمني لقتلي عمك فقال لها بصوت كله تهديد، و لماذا أقتلك ما دميتي ما دمتي في قبضتي، لن تغيبي عني أبدا بعد الآن، أنت ملكي، ملكي أنا، أنت الآن في نظر الدولة ميتة، منتحرة و هذه شهادة وفاتك.
كادت أن تخرج عيون الفتاة من مكانها لما سمعته و رأته في الشهادة، و كاد الخوف يوقف قلبها، و صار الألم في بطنها يعتصرها بكل قوة و هي لا تستطيع النهوض و لا حتى التحرك. فقد ماتت في عيون الكل و لكنها حية، أسيره بأيدي و أرجل متكسره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق