في كل مجتمع، توجد ثلاث طبقات: الطبقة الغنية، الطبقة الوسطى، والطبقة الفقيرة. بشكل عام، تشكل الطبقة الوسطى الأغلبية من العاملين والمتعلمين في المجتمع. لذا، عندما يركز المفكرون في عمليات الإصلاح، يبدأون عادةً بالطبقة الوسطى.
إذا أخذنا أقوى دولة في العصر الحديث، وهي إنجلترا، ونظرنا إلى بداياتها، سنرى كيف استطاع مفكرو عصر الأنوار تغييرها وجعل نجاحها يبهر الجميع.
كانت الخطوة الأولى هي إطلاق فكرة الحرية: الحرية المالية، حرية المعتقد، وحرية القول. والخطوة الثانية كانت بإطلاق العدل وتحديد حقوق الناس.
تمكن الناس من العمل بالتجارة والصناعة بحرية، وأسسوا شركات ضخمة وضعت رؤوس أموالها في بنوك الدولة، وهم آمنون من أن تسرقها الدولة. أصبحت الجهات الحكومية في خدمة هذا النشاط الاقتصادي الواسع والمتسارع.
بدأت دورات رأس المال تدر أرباحًا عادت للدولة كضرائب، استخدمتها في صيانة البنية التحتية للمجتمع. وأصبح الأسطول البريطاني في خدمة الأسطول التجاري، وكانوا يد العون في فتح أسواق جديدة للتجار، وفتح أراضٍ جديدة غنية بالمواد الخام للصناعة والتجارة والزراعة.
كسب الإنجليز حرية الحركة والعمل والقول، وشعروا بالأمان، وانتقلت الطبقة الوسطى من طبقة كادحة إلى طبقة مزدهرة.
وبهذا الازدهار التجاري، ازدهر النشاط المجتمعي والسياسي، ووضع دستور البلد الذي احترمه الحكام والمحكومين. أصبحت بريطانيا العظمى تسيطر على أراضٍ في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وأصبحت حضارة لا تغيب عنها الشمس.
هذا الازدهار لم يكن مجرد نتيجة للعوامل الاقتصادية فحسب، بل كان أيضًا نتاجًا للتقدم العلمي والثقافي الذي دعم هذه النهضة. فالعلماء والمفكرون البريطانيون أسهموا في الاكتشافات والاختراعات التي دفعت بالعجلة الصناعية والتجارية إلى الأمام. كما أن نظام التعليم المتطور أتاح للطبقة الوسطى فرصًا أكبر للتعلم والتطور المهني، مما عزز من قدرتهم على المساهمة في الاقتصاد والمجتمع بشكل عام.
الاستقرار السياسي الذي تميزت به بريطانيا خلال هذه الفترة كان أيضًا عاملًا أساسيًا في تحقيق هذا النجاح. فقد تمكنت من تجنب الكثير من الصراعات الداخلية والخارجية التي كانت تعاني منها الدول الأخرى في ذلك الوقت. هذا الاستقرار أتاح لها التركيز على التنمية والتوسع.
الاستعمار البريطاني، رغم كونه موضوعًا مثيرًا للجدل، كان له دور كبير في هذا الازدهار. فقد أمنت بريطانيا الموارد الطبيعية والأسواق الجديدة لمنتجاتها، مما زاد من ثروتها وقوتها. ومع مرور الوقت، أصبحت الإمبراطورية البريطانية أكبر إمبراطورية في التاريخ، تمتد عبر قارات العالم، وحققت مقولة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" بجدارة.
يمكن القول إن نجاح بريطانيا العظمى كان نتاجًا لتضافر عدة عوامل: الحرية والعدل، الابتكار والتقدم العلمي، الاستقرار السياسي، والتوسع الاستعماري. هذه العوامل مجتمعة صنعت حضارة ازدهرت وأثرت في العالم بأسره، وخلدت اسمها في التاريخ كحضارة لا تغيب عنها الشمس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق