في زمن الراحة والرفاهية، يميل الناس إلى التفاؤل، إذ يجدون في الأمن والشبع دافعاً لرؤية المستقبل بألوان مشرقة. ينتعش فيهم الأمل وتزدهر الأفكار الخلاقة، ويتسابق المفكرون والكتّاب إلى استشراف مستقبل زاهر يعمّه الرخاء والسعادة.
لكن في خضم هذا التفاؤل، يقف قلة من فلاسفة التاريخ على حافة الحذر، مشككين في دوام الراحة، وخصوصاً عندما يلوح في الأفق طيف الكبت الاجتماعي. إذ يرون أن التفاؤل والرخاء وحسن الظن ليست سوى أوهام بعيدة عن جوهر الغريزة الإنسانية.
فما إن يستقر الناس ويشبعون، ويطمئنون على حياتهم وأموالهم، حتى تتسلل إلى نفوسهم روح شريرة تدفعهم نحو الاحتلال والقتال والخراب. هذه الروح ليست إلا انعكاساً لرغبتهم في حماية أمنهم وتأكيد هيمنتهم على حضارتهم.
الإنسان، على عكس سائر المخلوقات، هو الوحيد الذي يمنح نفسه الحق في افتراس بني جنسه وأكل لحومهم. لا يوجد حيوان مفترس يقتل من جنسه لمجرد القتل، بل ينتهي صراعهم عادةً باستسلام الأضعف. الحيوانات تتقاتل لتأكل وتتزاوج، أما الإنسان فيقتل ليسرق، ويظهر التفوق، وللحسد واللهو، والتلذذ بالإذلال. وعندما نزلت الأديان لتحقيق الرخاء والتفاؤل والسعادة، عاد الإنسان ليقاتل من أجل تفسيراته الدينية ليثبت تفوقه.
في أوقات الحروب والقتال، تسود الدناءة والانحطاط الأخلاقي. تُنتهك الأعراض، وتُسفك الدماء، وتُدنس الأراضي، ويُمحى الحق والشرف والكرامة. تزدهر التجارة السوداء وتجارة الأسلحة والعبيد، وما تاريخ الهنود الحمر وعبيد أفريقيا، وحروب فيتنام، والقنابل النووية على اليابان، وحروب العراق وسوريا والسودان واليمن وليبيا وكوسوفو والشيشان، إلا عبرات شاهدة على هذه الحقائق.
الأكثر يأسا أن نجد معاهد علمية، تحت مظلة الأخلاق البحثية، تضع نظريات لأفضل الطرق في انتهاك الحريات واستعباد الناس واستغلال ثروات بلادهم وإهانة معتقداتهم وأديانهم. ومن يقاوم أو يرفض، يجد نفسه في السجون والمعتقلات التي يشرف عليها هؤلاء العلماء، ليجرّبوا فيها أحدث الأساليب العلمية والأخلاقية في التعذيب.
إنّ ديستوبيا المستقبل ليست مجرد نبوءة تشاؤمية، بل هي عبرة تستدعي التأمل والتفكير في جوهر الإنسان وطبيعة غريزته، ودعوة للتعلم من أخطاء الماضي، علّنا نجد طريقاً نحو مستقبل أكثر إنسانية وعدلاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق